الأحد، 20 نوفمبر 2011

الحرية لطارق .. (علي هذه الأرض ما يستحق الحياة 2 )


في بلدنا حاليا دائما ما تسمع هذه العبارة الحرية لفلان المعتقل علي اثر احداث كذا .. وتري لافتات تحمل صوراً وعبارات الحرية لفلان الناشط في حركة كذا وكذا .. وكل ما يعانون منه هو سجن أصغر .. معتقل أو زنزانة او ربما اقامة جبرية ..
وهناك خارج السجون تلك .. من هم مسجونون أكثر .. في سجون اكثر ضيقا .. ربما هي علب صغيرة .. ولكنها زنازين حريرية الملمس وردية اللون .. زنازين باقنعة براقة .. ولكنها في النهاية زنازين ..
فالسجون في التصور الإيماني .. إنما هي سجون الداخل .. سجون النفوس .. سجون الشهوات وتشوهات التصور ..
""قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه "
السجن أحب من حرية موهومة في حضن الشهوة .. مع خسارة النفس ..
وطارق (تحدثت عنه في الادراج قبل السابق ) كان مكبل في احداها ..


طارق كان حاملا لكتاب الله في صدره .. قارئا واسع الاطلاع -دودة كتب - كما يسمون امثاله في مصر .. عداءاً ماهراً ورياضيا عالي اللياقة .. ولكنه تخلي عن كل هذا .. حينما قرر الالتحاق بساقية العمل مبكرا .. مبكرا للغاية .. لأنه قد قرر الخطبة والزواج وهو لم يزل طالبا جامعيا .....
وبغض النظر عن التوقيت .. فإن الزواج في مدن الازدواجية والخوف العربية يعني أن تتخلي عن كل شيء .. تتنازل طواعية وربما لا شعوريا عن كل القيم الجمالية فيك .. عن هوياتك .. عن شغفك .. وربما عن انتماءك التنظيمي .. وربما بشكل اكثر قسوة عن اورادك وعلاقتك بالله .. ذاك جميعا في سبيل لقمة العيش .. التي اصبحت مع الوقت أكثر من مجرد سعي وراء لقمة العيش .. فلقمة العيش لم تزل علي سعرها القديم .. ولكن تطلعاتنا هي التي اختلفت .. ورغباتنا هي التي لم تعد تقنع بالعيش .. وإنما لا تقنع بما دون البيتزا .. والوجبات التي تحمل العلامات العالمية المسجلة ..
طارق كان يبرر تخليه عن كل جميل فيه .. أو ربما ضياع كل جميل فيه غفلة منه بأنه سقط أثناء البحث عن حياة كريمة ..
الحياة الكريمة .. هي مبرر الغافلين .. والمنبطحين .. والجبناء .. والسارقين .
الحياة الكريمة هي مبرر المنهزمين .. والخائنين ..والذين تخلوا عن احلامهم ..
الحياة الكريمة هي مبرر الجميع أمام كل انبطاح .. كل تسامح مع الشر .. كل تصالح مع السواد .. وكل استمراء لما لا تريد ..

قال لي طارق واصفا الحياة للشباب حديثي التخرج في مصر .. بأنها ميكنة نهمة شرهة .. ماكينة هائلة الحجم .. تلتهمنا .. ندخل من احدي جوانبها علي فطرتنا .. علي جماليتنا .. علي شغفنا .. نظن أننا سنغير الكون وسنقنع بالقليل .. وسنأتي من المال بما يكفي لنحقق أحلامنا البيضاء ..
ولكنها تستمر في العمل .. تلك الميكنة ذات البرمجة المحددة .. ذات الأحلام المعلبة .. والتصورات المستوردة ..
لنخرج من الناحية الأخري قوالب .. أناس معلبين .. كل منا يحمل لاصقا بدواعي ونواهي الاستعمال ..
نذوب .. نتوه .. ننمحي .. نتلاشي ..
ولكن تبقي اجسادنا .. وارواح منا بلا هوية .. ككائن غريب يحتلنا ..
فنستيقظ كل صباح بذات المرارة في افواهنا .. وذات المرارة في صدورنا .. لا نعرفنا ..
نشعر بالغربة معنا ... بالغربة فينا ..

حتي ربما لا نجد أنفسنا لنستمتع بتلك الحياة الكريمة .. التي ضحينا بكل شيء في سبيلها .. حتي انفسنا ذاتها ...

اجبته :

اتعرف يافتي .. شتان بين الحياة الكريمة .. والحياة التي ارادنا الله ان نريدها ..
الحياة التي يأملها صاحب اليقين في تصوره لمعيشته الدنيوية ..
الحياة التي وعد الله بها المتقين ..
الحياة الطيبة ...
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }النحل97

تلكم فقط هي ما تحدث عنها الله ..
طيب الحياة .. لا الحياة الكريمة بمفهومها الحضاري الحالي يا فتي .. ذاك المفهوم هو اول ما ينبغي عليك أن تتحرر منه ..
أن تتحرر من معطيات الحياة الكريمة .. من تعريفها المادي العقيم .. من التداول العامي الشائع لهذا المفهوم ..

وأن تطلب الحياة الطيبة ...

والفارق  جد كبير ..
الحياة الطيبة .. غير متعلقة بالخارج .. غير مرتبطة بما تملك .. غير متناسبة مع ما لديك ..
الحياة الطيبة متحررة من الواقع .. متحررة من الظروف .. متحررة من الأاشياء ..
الحياة الطيبة تنطلق  من الداخل .. من داخلك انت .. متعلقة بقلبك .. بروحك .. بتصورك .. بكيفية استقبالك للواقع لا بالواقع نفسه ..

الحياة الطيبة هي بستان العابدين .. ومستراح السائرين لله .. هي التي لو ذاقها الملوك ورجال الأعمال لأعلنوا حربا قدسية لاستردادها ..
قال أحد الصالحين : "لو يعلم الملوك وابناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف "
التي قال عنها احد الصالحين ايضا :: " إنه لتمر بالقلب لحظات اقول لو أن اهل الجنة فيما نحن فيه لهم في نعيم "

الحياة الطيبة التي تحملها في صدرك غير عابء بالتغيرات الكونية .. كمسحة ممن لا تجوز عليه الحوادث ولا تؤثر فيه التغيرات .. فيسكن القلب بثبات مولاه المتعلق به ..
حتي قال ابن تيمية :" ماذا يفعل بي اعدائي .. أنا جنتي وبستاني في صدري اينما ذهبت فهي معي .. إن قتلوني فقتلي شهادة .. وإن نفوني فنفيي سياحة .. وغن سجنوني فسجني خلوة "

اتري يافتي ذاك التصور الإيماني كيف جعله يغير نظرة استقباله للكون .. وزاوية رؤيته للحياة .. تصور اصبح عدسة وردية يري فيها السجن خلوة .. والنفي سياحة ؟؟!!

قناعتك بزوجتك .. ورضاك عن مساحتك في الدنيا .. ونظرتك الواسعة للعناية الربانية .. والرؤية الصابرة للحكمة في البلاءات .. أن تري المنح منحاً .. والمنع منحاً .. أن ترضي بكل ما نزل بك لأنه لم يخرج عن نطاق الإرادة الربانية .. وتري خطة ربانية .. ومطبخ للأأقدار يصنع لك وجبة سيرتك الحياتية ..
يوسف لولا البئر .. والسجن .. لم يكن ليحكم مصر ..

أحمد بن حنبل يقول : "تزوجت ام عبد الله منذ خمسة وثلاثين سنة ما اختلفنا في كلمة "
لم يكن ديكتاتورا .. أو متعنتا .. أو مغلوط الفهم للقوامة رحمه الله .. إنما التصور الحقيقي لطيب الحياة .. قانع مقنع ..

اهتمامك بالدواخل .. بالمعاني  .. تفضيلك للقيمة عن الوفرة .. وللأثر علي الكثرة ..

تلك المشاعر اللاموصوفة التي تنتابك خارجة عن المعقولية عند استيقاظك في جوف اليل بدون منبه لتقف بين يدي الله ..

ذاك الهم الذي تعلم أنه ما بينه وبين انفراجه عنك سوي أن تضيف إليه اللام .. حين تنادي .. اللهم ..
والكربة التي تتحول بعمق الفهم .. وقبول الحكمة الربانية فيها .. فتختلط حروفها وتعاد ترتيبها .. فتصير .. البركة ..
تلك هي الحياة الطيبة ..
والطيبة لا توصف ..
لا تنال ادراكاً إلا بالذوق ..
أن تذوقها فقط ..
فلو طلبت منك ان تصف لي طعم الفراولة لوقفت اللغة بأسرها عاجزة عن وصفها وكأني اذوقها حتي افعل ...
فما بالك بالحياة الطيبة .. اكسير معيشة المتقين ..
الحياة الطيبة في الدنيا .. هي التي ينبغي أن تكون منطاق ارادتك .. والعجيب أنها مكفولة بالإيمان والعمل الصالح .. منحة ربانية .. ونتيجة منطقية لاصحاب اليقين ..

أما تلك الحياة الكريمة .. المتعلقة بمسكن وسيارة وملابس وحسابات بنكية ومكانة وظيفية .. فهي وهم زائف لا تلبث أن تمسك خواء حقيقته عند الوصول إليه ..

بقي لك حياة أخري .. وهي حياة الرغد ..
وتلك لا مكان لها إلا في الجنة ..
وهي جماع الاثنين .. متعة الداخل .. ومتعة الخارج .. . لذة النفس .. ولذة الاشياء ..

فما عليك سوي الارتماء في كنف التصور الحقيقي .. والقاء أخدوعة الحياة الكريمة في مزبلة الحضارة العقيمة .. والتمسح بعتبات الإيمان والعمل الصالح .. وحينها ستذوق لذة الدارين ..
الحياة الطيبة في الدنيا .. والحياة الرغدة في الآخرة ..
ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف ...

السبت، 19 نوفمبر 2011

تحرر من الاعتماد علي العمل


    " من علامات الاعتماد علي العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل"  ابن عطاء الله السكندري .. الحكمة الأولي
    هي من اكبر المشكلات القلبية .. الاعتماد علي العمل .. تعلق القلب بالحركة والسكون والسبب والفعل .. هي لوثة من لوثات الدنيوية .. والمادية .. نوع من انواع الاعتماد علي الحس .. علي ما تراه وما تلمسه .. من تمكن عالم الشهود والمشهود من القلب .. من رجحان كافة الجانب الفيزيائي علي الجانب الروحاني في التصور ..
    الاعتماد علي العمل  احد مظاهر المادية .. احد مظاهر تشوهات التصور .. والتعلق بعوالم المادة .. وللتخلص منه لابد اولأ من اكتشافه .. من الغوص في النفس للامساك بمنطلقه .. بجوهره .. ولابد للغائص من خريطة .. من مظاهر .. ومعالم تمكنه من التقاط وجود الخلل في قلبه وتصوره ..
    واكبر مظاهر الاعتماد علي العمل هوتلك الحالة من اليأس .. من الركون .. من الجزع عند وجود خلل ما .. زلل ما .. عندما تخرج الأمور عن السيطرة .. يضيع الرجاء ..
    هي حالة الجزع التي تكشف ضعاف اليقين عند البلاء .. حالة الفوضي الحسية والتخبط وفقدان الهوية والاتزان عند نزول المحن الفجائية ..
    تتراوح تلك الحالة تبعا لثقل البلاء وتبعا لتمكن حالة اللايقين وتشوه الاعتماد علي العمل من القلب والروح والعقل ...
    اما المؤمن الحق .. صاحب اليقين وهو التصور الذهني القويم .. لا يعتمد علي العمل .. لا يتعلق بالأسباب والحركة الفيزيائية الكونية .. لا يعبأ بالقوانين الطبيعية .. هو لا هملها ولكنه غير متعلق القلب بها .. يعلم أنها ما انطلقت في مشوارها اليومي إلا في نطاق المشيئة .. وتحت كنف العناية .. وأنها لا تخرج عن مدي الإراددة الربانية المطلقة قيد أنملة .. وان الله هو المحرك .. والمسبب ..
    لذا فالصبر عنده صفة لصيقة في الرخاء والشدة .. فالقلب متعلق بمسبب الاسباب .. غير عابئ بالتغيرات .. فمن تعلق بالثابت ثبت عند التغير .. ومن ارتبط بالذي لا تجوز عليه الحوادث سكن عند نزول الحوادث ..
    هو يعلم ان من انزل النوازل قادر علي رفعها .. ومن احدث الحوادث بقدره قادر علي رفعها بلطفه ..
    لذا فأول توجهاته عند وقوع الزلل .. التمسك بالرجاء .. وصدق الالتجاء .. ووجود الدعاء .. والاجتهاد في طلب الصبر والفهم عن الله في الامتحان ..
    وعلي المقياس الاصغر .. تجري الحياة باسرها لدي الموقن .. اعماله الصغيرة .. خططه اليومية .. يعتمد فيها ربه ومولاه ومحرك الكون بارادته لا يعتمد علي عمله أو بشريته .. يبرأ من امكاناته ومواهبه وافعاله وحوله وقوته إلي حول الله وقوته .. فلا حول في الواقع .. ولا قوة علي الحقيقة . ولا قدرة في ابعاد الفهم الحقيقي إلا لله وبالله .. فيبرأ المؤمن من الاعتماد علي العمل .. ويعتمد فقط علي مدبر الأمر ..
    لذا فعند وقوع الزلل .. والخلل .. الظاهر أمام الادراك البشري القاصر .. لا يكون مجالا للجزع .. ولا يفقد القلب يقينه وثباته وسكونه .. فقط يركن إلي الجانب الثاني والجناح الموازي للتفويض وهو جناح الرجاء .. الالتجاء .. والدعاء ..
    ومن زوايا النظر إلي الحكمة هنا ايضا .. معني وجود الزلل في العمل القائم عند اتمامه ..  بمعني نقصانه .. عدم كماله أمام عين الفاعل .. وتلك ربتة رقيقة علي قلوب موسوسي الكمال .. أولئك المترددين علي اعتاب القرارات .. المرتعشين قبل الخطوات .. دائمي التامل والتدقيق والتنقيح لأعمالهم .. يا سادة إنكم تعتمدون علي اعمالكم ولو علمتم أن للا‘مال اقدارها الخاصة وان الكمال مقرون بأفعال الله وحده لأطمأنت نفوسكم إلي نقصان أعمالكم .. ولسكنت قلوبكم رضا بوجود بعض الزلل الملازم لتخطيطاتكم ..
    ولأخرجتم أعمالكم إلي الكون .. ولأامضيتكم قراراتكم في الحياة.. ولفلعتم ما في وسعكم .. ولن أقول ولتتركوا ما تبقي لله .. بل اتركوا الأمر برمته لله .. فإنه هو الفاعل حقاً ..
    اخرج صنيعتك .. وامض مع قرارك .. واسبح مع شغفك .. متعلقاً بالرجاء رغم الزلل .. متمسكاً بالالتجاء رغم النقصان .. معتمدا علي الله وحوله وقوته وارادته وقدرته .. غير متعلق بعملك .. بل غير مشاهد له .. إنما فانيا عنه .. غائبا عنه .. ناسيا جهدك .. متعلق بتوفيقه وعونه ...
    تلك سمة الموقن .. وتلك سمة صاحب التصور المشوه .. فانظر يا فتي اي الفريقين انت .. 
    التطبيق العملي :
    خلص .. وانجز .. ومتترددش كتير مع قراراتك .. دايما حتكون اعمالنا ناقصة .. وتخطيطنا عمره ما حيكون مثالي .. وقلب المؤمن مش معتمد علي تدبير بشري أو تخطيط بني أدمين او حتي قوانين فيزيا .. إنما معتمد بس علي ربنا .. علي المسبب والمكون .. والمحرك والمدبر .. عشان كده نزل افعالك علي ارض الواقع مباشرة حتي لو شايف انها لسه مكملتش ..
    لو في يوم كنت شايف الدنيا ماشية في سكة .. ومتوقع أنها مكملة بتتابعية علي سكة معينة .. ومرة واحدة ومن غير سابق انذار أو توقع انقلبت الترابيذة عليك .. واتت الرياح بما لا تشتهي .. ولقيت دنيتك رايحة في سكة مش متخطط لها .. أوعي تيأس أو تجزع أو تفقد اتزانك .. لأن السكك مش بتاعتك ..والعربية نفسها مش انت السواق الفعلي لها .. وفي النهاية حتي لو قطار دنيتك خرج عن قضبان تخطيطك فهو مش حيخرج ابدا عن قضبان عناية ربنا وارادته وقدرته وحكمته .. فلو لقيت الدنيا ضلمت واجراس الانذار بترن في قطارك سيبك من الفرامل والدواسات ونداءات الاستغاثة .. سيبك من الجزع واللماذا ؟ والصراخ .. وافتح بيبان قلبك ومد ايدك اقطف وردة رجاء من بستان اليقين .. وارمي دفتك في ايد الالتجاء .. واعرف ان مكنتش انت اللي سايق من البداية .. وانك مسكت الدفة بس عشان متكونش مقصر في حق الاسباب اللي انت مامور بيها .. لكن لما خلاص انتهت الاسباب وتلاشت البدايل اللي قدامك في ازمتك .. وانتهت استطاعتك في المجهود .. مبقاش قدامك غير انك تسيب الدفة علي وجه الحقيقة للي ماسكها من فوق بحكمته ... واياك تخاف ..

الخميس، 17 نوفمبر 2011

علي هذه الأرض ما يستحق الحياة (الحلقة الأولي )


اصبحت ابتسامته ميتة اكلينيكيا ..

ذاك هو خير ما يمكن أن يوصف به ..

اختفت تلك المؤشرات الحيوية منها فجأة .. تشعر حين تراه وكأن ابتسامته مجبرة علي التواجد مع وجهه وكأنها نابتة له مع الشارب واللحية الخفيفة .. تشعر وكأنه فقط يعاني ليبتسم .. يجتهد .. يتمرن ليجبر عضلات وجهه علي مزاولة البسمة ..
يمكنكم القول أنه اصبح يبدو وكأن وجهه متشنج في وضع الابتسام .. ؟؟!!
وذاك كان بالفعل أمراً مستغربا علي "طارق" .. امراً مثيراً للاندهاش  .. لأنه طارق بالذات ..

فمنذ سبع سنوات ..........
"طارق" كان مثالاً للحياة .. ليس أكثر من هذا وصفاً  .. تراه فتستشعر تلك الطاقة الغرائبية السارية  في الكون التي تسمي الحياة .. الحياة  تشع من كل تفصيلاته .. من كل زواياه ... من كل خلاياه .. 
عيناه الغائرتان .. تشعر وكأنهما يلمعان أكثر من اي شيء .. كأن بريقهما اكثر اتساعاً ..
 كان يخيل إلي وانا أنظر إلي عينيه أنه يري أبعاداً اكثر منا .. يري افاقاً أكثر اتساعاً .. وكان بريق عينيه العجيب معدياً للغاية .. لابد أن يجذبك .. أن يجبرك علي التوقف .. علي التحديق ..

لم يكن طارق وسيماً للغاية .. ولكنه كان جذابا جدا .. كجاذبية الحياة .. كانت جاذبية طارق تنبع من غريزتنا في حب البقاء .. فطارق كان القطب الآخر للجمود والسكون والموت .. طارق كان طبقة عليا من الحياة .. الحياة باكسيرها الناطق ...
طارق كان حياة تمشي علي الأرض .. كان طبعه الحياة .. وخلقه الحياة ..

ابتسامته العريضة الدائمة .. تبتلع كل شيء .. كنا نستغرب قديماً كيف كان يمتص كل غضب الكون علي الغاضبين بابتسامة وحيدة .. وكيف كان يشفي كل بكاءات المتألمين بربتة رقيقة .. 

وحتي تتمكنوا من استيعاب فداحة الاندهاش .. اعلموا أن بعض اصدقائنا قد اتهموه بأنه ساحر أو مشعوذ .. او "مخاوي الجان" بسبب تأثيره العجيب علي القلوب ..
كان مغناطيس حياة .. فمن بين ثمانية سائرين معا كما كنا دوماً كان الناس يتوجهون له وحده بالسؤال عن الوقت .. عن الطريق .. عن مسجد قريب .. عن رقم الاتوبيس ومحطة الميكروباس ..

من معرفتي لطارق فقط علمت أن للبشر مستقبلات مغايرة للطاقة .. ولغة غير الحروف والألفاظ ..

طارق كان يقال عنه أن لا ينام تقريبا .. وكلام في سركم  لم يكن ذاك ليكون مستغربا علي من عرفوا طارق جيدا .. النوم في حق طارق أمراً غير معقول .. غير منطقي .. هو رجل بحيوية عجائبية تشعر حين تراه أنه  علي الأقل يسير وهو نائم .. بل يجري ..
رغم كل تلك الطاقة المخزونة في أعماقه .. كان لا يعرف مجالاً لللعب أمثالنا يوم كنا معا .. كان جهاز الكمبيوتر الخاص به لا يحوي العابا .. وكان يومه لا يحوي لهواً ولا قليلا من فراغ .. تشعر وكأنه دائم الانهماك .. يقرأ .. يحضر .. يدرس .. يفكر .. يتنقل من أجل دعوته .. يتحرش بالسائرين في أدب ولباقة وأناقة قول عجيبة ليفاتحهم في بعض شئون الدين .. يكتب بضعة وريقات للامكان .. يرمي خطابا غير معلوم الوجهة في شرفة بالدور الأول لأناس لا يعلمهم في طريق لم يدخله من قبل ليذكرهم بالله ..
كان يقف في الأتوبيس ليحدث الناس عن الجنة حيناً .. ويتعلق بمواسير التمسك بسقف الترام ليحدث الناس عن الاستعداد لرمضان حينا اخري بين اصوات الاجراس والابواق والات التنبيه وصراخ المارة .. وكان لجاذبيته العجيبة الناس ينصتون .. لا تقاطعه انفاسهم .. لا يقاطعه سوي راكب مرت محطته انشغالا بكلمات طارق يصرخ : علي جنب يا اسطي ..

كان يعد اصغر من صعد علي المنبر في حينا البسيط .. صعد المنبر في المسجد المختبئ تحت عمارة تتهرب به من الضريبة .. صعد صعودا قدريا لفتي لم يكمل الثماني عشر ربيعا في مسجد قد تاه منه خطيبه بعد الآذان ..
صعد ولم يكن يحمل في ذهنه خطبة .. لم يكن يحلم سوي احلامه .. وطاقة الحياة فيه ..

 كان طارق ببساطة ابعد ما يكون في اذهاننا عن السقوط .. عن الابتعاد .. عن السكون .. عن الاعتيادية ..
كنا نعتقد أن طارق هو مثال لشخصيات الشهداء .. أولئك الذين يملكون من طاقة الحياة ما لا يتمكن من انتزاعها الموت .. فتتنزل عليهم الشهادة .. لانهم يجب أن يبقوا أحياء ..
كان يسبقنا دوما بألف خطوة ..  نعلمه استخدام الكومبيوتر فيعلمنا بعد بضعة ايام تطبيقات استثنائية لتعاليمنا .. نعرفه علي بعض الأصدقاء .. فيتصلون بنا من بيته في ليلتها ..
كنا نظن أن أمثال طارق لا يكتئبون .. لا يحزنون .. لا يصيبهم غم الحياة وكدرها .. كنا نشعر أن الحزن مخفف أكثر من اللازم ليمحو بسمته .. وأن الهم أكثر هشاشة من احتمال طاقة التفاؤل بين عينيه ..

كنا نظن أن الدنيا باسرها لا تشكل له اهتماما أمام دعوته وقضيته ...
كانت تتمركز امام طاقة التفاؤل فيه حوله كل جلسة .. وتتعلق بببريق عينيه المشعتين كتعويذة عيون كل من حضره .. وتنصت أمام لهيب الحماسة المطل من حروفه كل الآذان ... وتنبهر بانفعالات جسده كل الأذهان .. كنت تراه يحيا بكل حضوره .. بكامل وجدانيته .. يأكل بكامل حضوره .. يمشي بكامل وجوده .. يتحدث بكامله .. ويضحك بكامله ..
كان يحيا بعمق ..
ذاك كان منذ سبع سنوات .. يوم كانت هناك قضايا تتسعنا .. وقيم تشكلنا .. ومعاني كنا نحيا من أجلها ...

وذهب طارق في طريقه .. وذهبت في طريقي .. لأقابله بعد سبعة سنوات كاملة .. لاندهش ..

ربما لم يكن به خطب ما بالنسبة للناظرين بسطحية .. ولكن من يعرفون اكسير الحياة المتحوصل بشرا يسمي طارق هذا جيدا .. يعلمون أن بذاك الوجه .. وتلك الطلة الحالية .. إن طارق أصبح ميتا من جهة ما ..
شيء ما ياكله .. ثقب اسود داخله يلتهم تلك الطاقات فيه ..
اختفت هالة الاشعاع حوله .. انقلب البريق في عينيه بطبقة رقيقة من الدمع تتخفي .. نوع من الشجن .. مسحة من الحزن ..

"شعور باللاجدوي .. شعور بالضياع .. بالخواء .. بالفراغ .. يحتلني "
هكذا صارحني بما يشعر به حين واجهته بقديم ذكراه في ذهني ..
" أنت يافتي ؟؟!! مثلك أنت بلا قضية ؟؟ بلا معني ؟؟ مالذي سقط منك في الطريق إلي السنة السابعة ؟؟"
سألته باستغراب الكون ..  عن تلكم السنوات السبع العجاف ..

واتفقنا أن يروي لي قصته .. وأرويها لكم ..
ونبحث معا علي ما سقط منه في الطريق ..


قديما قال لي طارق نفسه حول تلك الآية .. "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلبوهم لذكر الله ... "
"إياك يافتي أن تقرأها بمعزل عن الآية التي تليها .. إياك إلا يدخل لك الشيطان باحباطاته ووعوده الفقر .. إياك أن تنسي لمحة التفاؤل في الربتة التالية لها مباشرة "أعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها "

يتبع قريبا لقاءاتنا معا .. ورحلتنا للبحث عنه ..