الأحد، 9 أكتوبر 2011

أيمن بلا يمني ..


رأيته بعد مضي ما يقرب من العامين .. شاحب بشدة ..
علي وجهه ألف قطرة من عرق .. او يزيد ..
كان يجلس علي مقعد متحرك .. مبتور الرجلين إلي ما فوق الركبة .. مبتور اليدين إلي ما حول الرسغ ..
كانت الساعة الثالثة فجراص بقسم طوارئ الجراحة والحوادث ..
لم اتذكره في البداية ..

- أنا عارفك .. شفتك قبل كده ؟؟!!
رد باعتياد النجوم أمام معجبيهم .. 
وفي حسرة الخسارة الساخرة .. وعلي وجهه نبتت ابتسامة مجبرة علي التواجد ..
فإننا أحياناً نبتسم بالإكراه ..

- اكيد هنا يادكتور .. ماهو أنا محجوز هنا ..
واشاح بوجهه سريعاً ..

- أيمن .. مش كده ؟؟!!
أجاب في استغراب : ايوه يادكتور ..
فأمثال ايمن يستغربون أن يعرفهم الأطباء بأسماءهم ..
فبعد فترة من التلبس بوشاح البياض المعقم .. يبدأ الطبيب في مناداة الناس بحالاتهم .. بنسبة الهيموجلوبين .. او فيروس سي ..
بل يبدأ الأطباء يرون الناس أعضاءاً بعينها ..
فذاك قولون .. وذاك زائدة .. وهذه غدة درقية ..
وايمن كان اسمه برجر ..

فأن تنادي مريضا باسمه في المستشفي الأميري كانت تحمل له بعض الدهشة ..

وانسابت في ذهني الذكريات ..
إنه أيمن .. حالة الدرس في قسم جراحة الأوعية الدموية اثناء الدراسة .. اي منذ مايقرب من السنتين ..
اتذكره جيداً .. فقد اصابني بهزة عميقة ..
وأمثال أيمن لا يمكن نسيانهم ..
أمثال ايمن ينسون هم الأطباء ولا ينساهم الأطباء أبداً ..

ولكنني حين رايته للمرة الأولي كان بجسد كامل .. كان حالة الدرس يوم مناقشتي ..
وكنت اتجاوز كعادتي مناقشة الحالة .. اتجاوز المرض ..

ايمن فتي عشريني .. قوي البنية .. أو هكذا كان يوماً ..
تحمل عيناه عمقاً غرائبياً ...
كان يومها عمق التخوف .. عمق المجهولية ..

واليوم زاد عمق عينيه .. بنكهة الأسي .. والياس ..


ايمن يعاني من مرض يدعي مرض برجر .. وهو مرض يصيب المتشابكة العصبية الدموية .. (الأعصاب والشرايين ) ..
يتوقف علي اثرها الدورة الدموية بشكل تدرجي في الأطراف ... فتموت الخلايا ..

الخلاصة أن ايمن .ز وبشكل تدريجي كان يخسر كل يوم جزءاً منه ..
وكل بضعة اشهر يضطر الجراحون لعملية بتر للأجزاء الميتة ..

وحينما رايته في بداية مرضه كان قد خسر ثلاثة اصابع ..
وخطيبته ..

أيمن هو رجل بطعم الخسارة ... بنكهة الخسارة ... برائحة الخسارة ..
تتحدث معه فتلعن تاففاتك وامتعاضك من قلة المال .. او ازدحام الطريق ..
ايمن يجعلك تتضاءل كلما رأيته ..

ايمن هو مقابلة حية مع رجل كرامون سامبيدرو (فيلم البحر داخلي the sea inside ) .. بعمق الخسارة ..
لن اصنع اقصوصة بنكهة الوعظ .. ولن احيك شخصية روائية اقول فيها أنه الصابر الراضي ..
ايمن لم يكن سعيدا قط ..
هو ايضا لم يتأفف .. لم يلعن ..
هو كان يائساً ..
كانت الدنيا عنده تسير من الطرفين ..
كان الوقت عنده يسير اسرع منا ..
نحن نسير كل يوم نحو الموت يوماً..
فعندنا كل يوم نقترب من أجلنا خطوة ..

اما ايمن فكان يسير كل يوم نحو الأجل خطوة ..
ويسير نحوه الأجل خطوة ..
وكأنه يقطع في اليوم نحو الخسارة يومين ..
أو اكثر ..

لا لم يكن مرض برجر مميتاً ..


اليوم .. أيمن قد خسر رجليه .. علي أكثر من عشرة مراحل .. وعشرات عمليات البتر ...
وخسر معظم اصابع يديه ..
واليوم واثناء كتابة هذه السطور ..
يبترون له جزءاً آخر ..
جزءا أكبر ..

يبترون معه .. جزءاً من روحه .. التي اصابها بدورها البتر ..

بعدما مات حماه .. تدخل اخوال خطيبته .. وكان لم يزل يحتفظ باصابعه .. ولكنه يعلم أنها استعارة مؤقتة من التراب تبعا لمقولات الاطباء ..
- لم تربطين مصيرك بمشروع عاجز ..

وهكذا تركته خطيبته ..

لا اريد اليوم أن احمل عظة علي لسانه .. او حالة حياته .. ولا أن اصنع منه اسطورة ابتلاء صابر ..
إنه فقط يكشفنا .. يعرينا .. يفضحنا ..
يخبرنا ان هناك زوايا كونية لا ندري عنها شيئاً ..
وجراح لا تندمل .. وخسارة تشرق علي بعض النفوس مع كل فجر ..
واننا بخير حال ..  ولو حملنا ملايين الندوب .. التي توقفت عن النزف وإن لم تتوقف عن الألم ..

,ان دنيانا العابثة الصاخبة .. ومشكلاتنا الصغيرة التافهة لا تساوي شيئاً ..

واننا نملك الكثير والكثير ..

واننا وان ادعينا الخسارة ..
لم نخسر الكثير .. ولكننا نركز بأذهاننا علي ذاك القليل الذي خسرناه ..

إن ايمن كان يدفن كل اسبوع قطعة من جسده ..
ونحن نتأفف من حر الظهيرة ..؟؟

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

وانشق القلب


أنا كائن برمائي .. نصف حياتي في الماء والنصف الآخر علي الأرض ..
أو بمعني ادق كيان أرضسماوي .. نصف ارتباطي بالسماء والنصف للأرض ..
وقد أعياني ذاك التدافع فنصفي السماوي يجذبني للأعلي .. ونصفي الأرضي يشدني للغوص ..
لقد تقطع القلب بينهما .. انشق .. وتمزق ..

فوجدت أن الحل يكمن في التراضي .. في مفاوضة نهائية بيني وبيني ..
نصعد جميعا للسماء ساعة بكل القلب ..
ونهبط بجمعيتنا للأرض ساعة بكل القلب ..
مع اتفاق علي شروط للصعود .. وحدود للهبوط ..
ربما يحل ذلك تمزقي .. ويدفعني للتناسق مع الذات ..

نصفي السماوي محوره القرآن والعيش في محرابه والكتابة حوله وتفسير حياتي به ..

ونصفي الأرض محوره الكتابة المتمردة .. العشق الوهمي .. خيالات الروائيين ..

دائماً كنت اتساءل في الشروط التي وضعها القرآن لحماية الشعراء من حالة الغواية ..
(والشعراء يتبعهم الغاوون . الم تر انهم في كل واد يهيمون . وانهم يقولون ما لايفعلون. إلا الذين آمنواوعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا)

تري هل هي شروط للأداء الشعري .. بمعني هل لابد للتخلص من حالة شعراء الغواية أن يكون الشعر ايمانيا مليئاً بالذكر والانتصار للحق ..

أم أنها حدود للنفسية الشعرية ..
بمعني خض فيما يدفعك إليه الابداع .. وابحر فيما أردت من عوالم .. ولكن اجعل حياتك نفسها قائمة علي الإيمان والعمل الصالح والذكر والانتصار للحق ..
فتلكم وسائل حافظة لغواية النفسية الشعرية .. لا شروط للابداع نفسه ..

تلكم خصائص يجب أن يتحلي بها الشاعر .. لا الشعر نفسه ..
وينطبق الأمر علي الابداع بكافة اشكاله ...
فإن للابداع غواية .. لا يحفظك من شرورها سوي الارتباط بالسماء بتلك المعاهدة الرباعية ..
فتلك ساعة لامحدودة .. وتلك ساعة لا محدودة ..
ولكن كل منها تمس الأخري .. فساعة الابداع تكسر رتابة العبادة وتضفي عليها الروح والطعم واللذة .. بل قد يتعدي الابداع إلي العبادة ذاتها فيكون سببا في انفتاح اسرارها والفهم عن الله فيها ..
وساعة السماء والعبادة تضع للابداع وسائل الوقاية _هي ليست حدود_ إنما فقط كمخدات اسفنجية تحفظك من سقطات ما بعد القفز التخيلي والتحليق الابداعي ..
إنما هي ساعة وساعة ..