اصبحت ابتسامته ميتة اكلينيكيا ..
ذاك هو خير ما يمكن أن يوصف به ..
اختفت تلك المؤشرات الحيوية منها فجأة .. تشعر حين تراه وكأن ابتسامته مجبرة علي التواجد مع وجهه وكأنها نابتة له مع الشارب واللحية الخفيفة .. تشعر وكأنه فقط يعاني ليبتسم .. يجتهد .. يتمرن ليجبر عضلات وجهه علي مزاولة البسمة ..
يمكنكم القول أنه اصبح يبدو وكأن وجهه متشنج في وضع الابتسام .. ؟؟!!
وذاك كان بالفعل أمراً مستغربا علي "طارق" .. امراً مثيراً للاندهاش .. لأنه طارق بالذات ..
فمنذ سبع سنوات ..........
"طارق" كان مثالاً للحياة .. ليس أكثر من هذا وصفاً .. تراه فتستشعر تلك الطاقة الغرائبية السارية في الكون التي تسمي الحياة .. الحياة تشع من كل تفصيلاته .. من كل زواياه ... من كل خلاياه ..
عيناه الغائرتان .. تشعر وكأنهما يلمعان أكثر من اي شيء .. كأن بريقهما اكثر اتساعاً ..
كان يخيل إلي وانا أنظر إلي عينيه أنه يري أبعاداً اكثر منا .. يري افاقاً أكثر اتساعاً .. وكان بريق عينيه العجيب معدياً للغاية .. لابد أن يجذبك .. أن يجبرك علي التوقف .. علي التحديق ..
لم يكن طارق وسيماً للغاية .. ولكنه كان جذابا جدا .. كجاذبية الحياة .. كانت جاذبية طارق تنبع من غريزتنا في حب البقاء .. فطارق كان القطب الآخر للجمود والسكون والموت .. طارق كان طبقة عليا من الحياة .. الحياة باكسيرها الناطق ...
طارق كان حياة تمشي علي الأرض .. كان طبعه الحياة .. وخلقه الحياة ..
ابتسامته العريضة الدائمة .. تبتلع كل شيء .. كنا نستغرب قديماً كيف كان يمتص كل غضب الكون علي الغاضبين بابتسامة وحيدة .. وكيف كان يشفي كل بكاءات المتألمين بربتة رقيقة ..
وحتي تتمكنوا من استيعاب فداحة الاندهاش .. اعلموا أن بعض اصدقائنا قد اتهموه بأنه ساحر أو مشعوذ .. او "مخاوي الجان" بسبب تأثيره العجيب علي القلوب ..
كان مغناطيس حياة .. فمن بين ثمانية سائرين معا كما كنا دوماً كان الناس يتوجهون له وحده بالسؤال عن الوقت .. عن الطريق .. عن مسجد قريب .. عن رقم الاتوبيس ومحطة الميكروباس ..
من معرفتي لطارق فقط علمت أن للبشر مستقبلات مغايرة للطاقة .. ولغة غير الحروف والألفاظ ..
طارق كان يقال عنه أن لا ينام تقريبا .. وكلام في سركم لم يكن ذاك ليكون مستغربا علي من عرفوا طارق جيدا .. النوم في حق طارق أمراً غير معقول .. غير منطقي .. هو رجل بحيوية عجائبية تشعر حين تراه أنه علي الأقل يسير وهو نائم .. بل يجري ..
رغم كل تلك الطاقة المخزونة في أعماقه .. كان لا يعرف مجالاً لللعب أمثالنا يوم كنا معا .. كان جهاز الكمبيوتر الخاص به لا يحوي العابا .. وكان يومه لا يحوي لهواً ولا قليلا من فراغ .. تشعر وكأنه دائم الانهماك .. يقرأ .. يحضر .. يدرس .. يفكر .. يتنقل من أجل دعوته .. يتحرش بالسائرين في أدب ولباقة وأناقة قول عجيبة ليفاتحهم في بعض شئون الدين .. يكتب بضعة وريقات للامكان .. يرمي خطابا غير معلوم الوجهة في شرفة بالدور الأول لأناس لا يعلمهم في طريق لم يدخله من قبل ليذكرهم بالله ..
كان يقف في الأتوبيس ليحدث الناس عن الجنة حيناً .. ويتعلق بمواسير التمسك بسقف الترام ليحدث الناس عن الاستعداد لرمضان حينا اخري بين اصوات الاجراس والابواق والات التنبيه وصراخ المارة .. وكان لجاذبيته العجيبة الناس ينصتون .. لا تقاطعه انفاسهم .. لا يقاطعه سوي راكب مرت محطته انشغالا بكلمات طارق يصرخ : علي جنب يا اسطي ..
كان يعد اصغر من صعد علي المنبر في حينا البسيط .. صعد المنبر في المسجد المختبئ تحت عمارة تتهرب به من الضريبة .. صعد صعودا قدريا لفتي لم يكمل الثماني عشر ربيعا في مسجد قد تاه منه خطيبه بعد الآذان ..
صعد ولم يكن يحمل في ذهنه خطبة .. لم يكن يحلم سوي احلامه .. وطاقة الحياة فيه ..
كان طارق ببساطة ابعد ما يكون في اذهاننا عن السقوط .. عن الابتعاد .. عن السكون .. عن الاعتيادية ..
كنا نعتقد أن طارق هو مثال لشخصيات الشهداء .. أولئك الذين يملكون من طاقة الحياة ما لا يتمكن من انتزاعها الموت .. فتتنزل عليهم الشهادة .. لانهم يجب أن يبقوا أحياء ..
كان يسبقنا دوما بألف خطوة .. نعلمه استخدام الكومبيوتر فيعلمنا بعد بضعة ايام تطبيقات استثنائية لتعاليمنا .. نعرفه علي بعض الأصدقاء .. فيتصلون بنا من بيته في ليلتها ..
كنا نظن أن أمثال طارق لا يكتئبون .. لا يحزنون .. لا يصيبهم غم الحياة وكدرها .. كنا نشعر أن الحزن مخفف أكثر من اللازم ليمحو بسمته .. وأن الهم أكثر هشاشة من احتمال طاقة التفاؤل بين عينيه ..
كنا نظن أن الدنيا باسرها لا تشكل له اهتماما أمام دعوته وقضيته ...
كانت تتمركز امام طاقة التفاؤل فيه حوله كل جلسة .. وتتعلق بببريق عينيه المشعتين كتعويذة عيون كل من حضره .. وتنصت أمام لهيب الحماسة المطل من حروفه كل الآذان ... وتنبهر بانفعالات جسده كل الأذهان .. كنت تراه يحيا بكل حضوره .. بكامل وجدانيته .. يأكل بكامل حضوره .. يمشي بكامل وجوده .. يتحدث بكامله .. ويضحك بكامله ..
كان يحيا بعمق ..
ذاك كان منذ سبع سنوات .. يوم كانت هناك قضايا تتسعنا .. وقيم تشكلنا .. ومعاني كنا نحيا من أجلها ...
وذهب طارق في طريقه .. وذهبت في طريقي .. لأقابله بعد سبعة سنوات كاملة .. لاندهش ..
ربما لم يكن به خطب ما بالنسبة للناظرين بسطحية .. ولكن من يعرفون اكسير الحياة المتحوصل بشرا يسمي طارق هذا جيدا .. يعلمون أن بذاك الوجه .. وتلك الطلة الحالية .. إن طارق أصبح ميتا من جهة ما ..
شيء ما ياكله .. ثقب اسود داخله يلتهم تلك الطاقات فيه ..
اختفت هالة الاشعاع حوله .. انقلب البريق في عينيه بطبقة رقيقة من الدمع تتخفي .. نوع من الشجن .. مسحة من الحزن ..
"شعور باللاجدوي .. شعور بالضياع .. بالخواء .. بالفراغ .. يحتلني "
هكذا صارحني بما يشعر به حين واجهته بقديم ذكراه في ذهني ..
" أنت يافتي ؟؟!! مثلك أنت بلا قضية ؟؟ بلا معني ؟؟ مالذي سقط منك في الطريق إلي السنة السابعة ؟؟"
سألته باستغراب الكون .. عن تلكم السنوات السبع العجاف ..
واتفقنا أن يروي لي قصته .. وأرويها لكم ..
ونبحث معا علي ما سقط منه في الطريق ..
قديما قال لي طارق نفسه حول تلك الآية .. "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلبوهم لذكر الله ... "
"إياك يافتي أن تقرأها بمعزل عن الآية التي تليها .. إياك إلا يدخل لك الشيطان باحباطاته ووعوده الفقر .. إياك أن تنسي لمحة التفاؤل في الربتة التالية لها مباشرة "أعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها "
يتبع قريبا لقاءاتنا معا .. ورحلتنا للبحث عنه ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق