الأربعاء، 23 يونيو 2010

الكتابة .. حتي لا تكون لعنة


رأيته .. بعد عدة قرون .. وقد كبر سنه .. وابيضت لحيته .. وظهرت عليه أمارات الحكمة .. والعجز ..
سألته : لماذا حين يكبر الإنسان يزداد سخرية ؟؟
كان رجلاً قد خاض المياه الضحلة حتي خبرها .. وذابت في يده عشرون ألف صنارة صيد .. 
ليلقي بعدها ذخيرة أسماكه في بحر آخر ...

ما أجمل أن تصطاد سمكة من البحر الأسود .. لتلقيها في البحر الأحمر ... هكذا كان يقول 

كتب لي قبل رحيله وريقات يخبرني عنه .. وعنها .. وعن الكتابة حتي لا تتحول إلي لعنة ... كما كادت أن تفتك به يوماً ..فقال لي :
يافتي .. 
كدت أن أوصيك أن تترك الكتابة .. ولكني قد قطعت علي نفسي عهداً ألا أتحدث عبثاً .. ونهيك عن الكتابة عبث .. لذا فعمدت إلي التخفيف من وطأتها .. ومداواة الأثار الجانبية لمرض الأمراض .. ودواء الأدواء  .. الكتابة ..

يافتي .. احذر الكتبة علي الضمادات .. والشاش ؟
نعم .. لا حاجة للعالم بالكتابة بالدماء .. تلك الكتابات التي تخرج أرواح كاتبيها مع الحروف .. وفي النهاية دون طائل .. 
بل كثير منها عبث وباطل .. 
نعم .. ما أجمل الموت في معركة خاسرة ..
وما أحمق الموت محارباً .. في لا معركة ..
أو معركة وهمية ..

احذر الكتابة بالحزق .. والتعنية .. والإمساك المزمن .. 
الكتابة بالدماء أرستقراطية الحمقي ..

يافتي .. احذر أن تبحث عن موضوعاتك في عينات المعامل .. ومسرح الجريمة .. وأراضي ما بعد الحروب ..
فلا شيء هناك سوي أعضاء بالية .. ومزيداً من البكاء .. لن يزيد رطوبة تلك الأراضي كثيراً ..

إذا رحلت بالقلم مع عينة السرطان إلي المعمل .. فاكتب عن فرحة العيد لصاحبها في طفولته ..
واكتب عن كل حبيبين مرا يوماً قبل الجريمة من هنا .. ولتنتهي الرواية قبل الجريمة ...  بحرف ...
وإذا رأيت أراضي ما بعد الحروب ..
فلا تمر من هناك ثانية ..
فقط .. اكتب عن طرق أخري يستخدمها الناس لكي لا يمروا من تلك الأراضي ..
بل ارسم خرائط .. لا تحملها علي صورتها .. 
هو ليس زيف .. 
بل الواقع هو الذي تزيف ..
فأصبح علي خرائطنا أن تحمل الحقيقة .. وإن خالفت بها الواقع ..

فقد صرنا في واقع .. الحقيقة هي كل ما خالفه ..
والوهم هو ما اتسم بالواقعية .. 

يافتي .. لا تحمل هم الحرف القادم .. إن لم يخرج من تلقاء ذاته.. فابتر الكلمات .. واعمد إلي الحرف الذي يليه ..
فماذا تحمل الكلمات من قداسة تجعلها أعظم من أن تكون معاقة أحياناً .. وذات عاهات أحياناً ..
الرجال في الخارج مبتوي السيقان .. ومبتوري الأحلام ..ومبتوري الأصول ..
فلماذا تخاطبهم بكلمات كاملة ..
لربما كانت أوسع من عاهاتهم .. 


يافتي .. قبل أن تبدأ .. لا تكتب اهداءات .. بل أكتب نعياً للقراء ..
فالكتابة الحرة الحقيقية .. تقتضي ألا يكون هناك قارئ ما ... يقبع في منطقة مظلمة في خلفية عقلك ..
فاقتل قراءك قبل أن تكتب .. لتصير أكثر حرية ..


وإن خرجت أشباحهم لتنتقدك .. أو تمتدحك بعد الكتابة .. 
فقط ..
استعذ بالله ..
ولا تعبأ بالأشباح .. وهمسهم .. 

فلو استمعت .. لتلبسوك .. 


يافتي ..  الكتابة دون غاية .. عبث ..
والكتابة .. لغاية .. عبث ..
إنما الكتابة ... كالتبول .. 
لا يمكنك كتمانه .. 
ولا تخرجه لترسم به لوحات ترابية ..
إنما هو فقط .. يخرج ليخرج ..


الكتابة كالتبول نعم ..
فكلاهما مقزز ..

وكلاهما قد تدفع أموال الكون .. إن أصابتك منه الحرقة .. أو الكتمة .. 


يافتي .. لا تكتب بقلم أطول منك .. 
لأنه وقتها هو ما يكتب بك ..
ولا تخوض في ورقة أوسع من عينيك .. فإنها تبتلعك ..
واحذر أن تتحول الحالة الكتابية إلي مسخ .. ووحش أسطوري .. يعييك ترويضه ..


يافتي .. اللغة آلة .. 
فلا تتركها هي تستخدمك ..

تعقد حين تريد أنت .. وتبسط حين تريد ..
تغامض حين تريد ..وافتح الأنوار حين تريد ..


يافتي .. الكتابة قد تتحول إلي شرك .. وعبودية للذات ..
فلا تبالغ في تأمل المخلوقات السارية في كلماتك ..
وألقي بأروراقك فور انتهائها ..
لا للمراجعة .. ولا للمعاودة .. ولا للمرايا الكتابية .. والتنقيب في قديم .. حتي لا تصاب بعشق الذات .. 
فيقتلك .. ويقتلها فيك ..


يافتي .. إن كتبت .. فلا تقرأ لبشر قط ..


يافتي .. إن عصير حياتي كلمة واحدة ..
لقد كتب الله كتاباً .. فلا حاجة للكون بعدها إلي كتاب أخر ..
لذا إذا كتبت .. 
فاكتب .. فقط ..
لله ................................................


هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

فاجأني التشبيه الأخير.. ولكن لم يكن من بديل له رغم انه مقزز .. نرفع القبعه علي هذا الاسلوب الراقي