لأنها أجمل من أن تنسي .. من أن تسقط .. كما سقط منا الكثير والكثير في الرحلة ..
مما نحتاج إليه فعلاً ..
نقتني الأوراق .. والكتب .. والأجهزة ..
ونجمع بعض العملات القديمة .. والأغنيات .. وصور عائلية سخيفة ..
ويسقط منا في الطريق .. الكثير من المعاني .. تسقط سهواً ..
وأحياناً .. تسرق ..
وأحياناً .. نبيعها ..
المصيبة أن تلك المعاني والرسائل التربوية الربانية هي مفاتح مغاليق الطريق ..
لن تنفعنا الصور .. ولا كرامة لورقة .. ولا عزة لكتاب بشري .. حين تعلو ألغاز الطريق ..
نبحث في جيوبنا عن وجه مألوف .. عن يد صديق .. عن حالة حياة ..
عن تجربة حقيقية .. لا شخصية روائية .. أو عبث سينمائي ..
فما بالنا نشكل عقائدنا .. ورؤانا .. وتصوراتنا في الحياة من الرواية السينمائية المنقوصة ..
ونغفل الصياغة الربانية لشخوص حقيقية تسير في الجوار ..
وهي كانت كذلك ..
رأيتها .. علي كرسي متحرك .. تدخل إلي قاعة الدرس في قسم أ حريم أمراض عظام ..
أوحي إلي وجهها .. أنها تحمل أكثر مما ينبغي .. وأن ذاك الثقل في صدرها هو ما أقعدها في النهاية علي الكرسي ..
وأدهشني صفاء بسمتها ..
هي إمرأة خمسينية .. في نضارة فتاة عشرينية ..
مين حيناقش الحالة دي ياجماعة ؟؟ قالها طبيب يرتدي معطف ابيض .. أقصد معطف أبيض نبت له كائن بشري ..
فإن الطب اثنان ..
إنسان يرتدي معطفاً .. ومعطف يرتدي إنساناً ..
فبعد كثير من العمل .. والعمل .. نكتشف أن قطعة القماش البيضاء التي نرتديها صارت أغلي منا ..
وتقاعسنا جميعاً .. لا أحد يقوم .. فلا أحد يعرف شيئاً .. كلنا جديدون هنا .. ومرت دقائق .. صامتة ..
وجذبتني إليها .. هناك شيء ما فيها .. في عينيها صفاء ملائكي ..
اقتربت منها .. لم أسالها عن شيء وجدتني فقط أمد يدي لأحتضن يديها المرتعشتين خوفاً .. فهي تعلم أنها ضحيتنا الجديدة ..
ففي المستشفيات التعليمية لا تدفع أجر علاج مادي .. وإنما تدهس كرامتك البشري .. وينكشف جسدك أمام أيادي الطلاب الجدد .. يهرسونه بفحص السذج .. المستجدين ..
الذين لا يعتبرونك إلا أداة ..
يزنوك بميزان حالتك ..
حالتك سكر .. منتشرة .. قديمة .. لا تساوي شيئاً ..
حالتك ورم سرطاني .. أنت تساوي الكثير .. نعم .. قدر درجات امتحان العملي ..
بالنسبة إلي طلاب الطب .. صلاحية الإنسان تنتهي بمجرد انتهاء الكشف عليه ..
بالنسبة إلي أنا .. كانت علاقتي تبدأ تماماً في ذاك الوقت .. بالمحتضرين ..
لماذا أجد في الإحتضار شيئاً يجذبني .. حد البكاء ..
أعود إليها .. اسمها رضا .. وحينها عرفت كيف أن لكم من اسماءكم نصيب ..
الحالة .. علي قائمة انتظار تغيير مفصل الفخد علي نفقة الدولة .. بعد التهاب مفاصل مزمن وقاسي أودي بمفصلي الفخد ..
السبب : ابنها يعاني من ضمور العضلات .. لديه الآن بضع وعشرين سنة .. وبالتالي فهي قدميه .. ويديه ..
وكرسيه .. وعجلاته ..
والضريبة .. فخديها ........................
ألم قاسي .. وتشوه عجائبي في الحوض ..
لقد عانت تلك المرأة كثيراً ..
أنا أعرف تاريخها المرضي ..
أما هم .. وطبيبهم .. فيعرفون تاريخ مرضها ..
وفارق بين تاريخها المرضي .. وتاريخ مرضها ..
وبعد أن انكبوا عليها ... الكل يداعب .ز ويسحق .. ويضغط .. ويندهش .. ويدون ..
قامت .. وفي عينيها اكسير التوسل قد انصب ..
وصاحت .. طمني يادكتور .. هل سأعود كما كنت ؟؟
ولمحت هنا ابنها يدلف إلي الصورة .. ليغرق في طبقتين من الدموع احتلتا عينيها .. ويحترق مع احمرار خديها ..
ويختنق مع حشرجة صوتها ..
ويذبحني في حرقة .. تنبعث من كيانها المنتفض ..
وجدتني أنسكب نحوها .. انهمر ..
حملتها .. وذهبت بها غلي سريرها .. وهي لم تتوقف عن البكاء ..
وهناك أدهشتني ..
روت لي حكايتها .. كاملة ..
وروت لي ما وراء الحكاية ..
توقعت أن أري تذمراً .. أن أري حتي تصبراُ ..
ولكني ما رايت إلا قمة في الرضا .. هي تحبه حب العاشقة ,, تهواه ..
لا يعييها من المكوث في المستشفي سوي بقاء ابنها بيعداً عنها ..
هي تتبعثر ندماً .. أن يظن أنه هو السبب ..
ترجوني في سؤالها .. أهو السبب ؟؟ .. تريد أن تسمعني أقول لا ؟؟
لتقسم له أن ذاك رأي الطبيب ..
أحببتها .. وأحببته ..
وأحببت القدر معها ..
وانتهت فترة التدريب .. وانا أهواها ..
أزورها يومياً .. نتسامر طويلاً ..
ويوم الزيارة .. يوم تجتمع العائلات .. ويختفي الأطباء.. ذهبت لأراه ..
جميل هو كنجم سينمائي .. غاية في الوسامة .. شديد الرقة ..
عذب البسمة ..
تري ما الذي ذهب بي يومها .. ؟؟
نعم أردت أن تكتمل لدي الصورة
.............................................................................
.....................................................................
................................................................................................
..........................................................................
...........................................................................
يا إلهي .. أو تعرف هي ؟؟
أو يعرف هو ؟؟؟
ما تلك السكينة التي تملؤهما ...
كيف يمتلئان رضا ..
كيف لم يسخطا .. لم يتمردا .. لم يصرخا .. كالمتوقع بالنسبة إلينا ؟؟؟
كي يمتلئ وجهها نضارة بمجرد رؤياه .. وهي تعرف أن عنائها سيبقي به .. وسيزيد بعده .. وأنه قربما يمضي ..
إن الكتابة عن رضا كحالة درس العظام .. سهل للغاية ..
ولكن الصعوبة في مجرد احصاء كم المعاني التي سكبتها في نفسي .. ولا املك لها صياغة .. بل إن محاولة صياغتها افساد قاس لها ..
فقط كل ما يمكن قوله .. أنه قبل أن تحتشد في عقلك الحالات وتلتبس الأسماء .. ويقتل الطب فيك البشري ويحولك إلي مشرط .. أو ميكانيكي بشري .. ويتحول الناس إلي حالات واسماء متلازمات ..
كل ما يمكن قوله أن بالإنغماس مع البشر حتي النخاع .. وبالخروج من حافة الصورة السينمائية إلي عمق الواقع.. نجد ما يؤكد لنا أن هناك ابعاداً في الحياة .. ومعايير أخري للسرور .. وللسعادة .. وللسلام الداخلي ..
معايير أخري للنجاح .. واللذة ..
معايير أخري للبياض ...
تلك إمرأة .. وكلمات قد لا تعني لقارئ خارجي شيئاً..
ولكنها عنت لي الكثير ..
كل ما أردته أن أدونها .. لأتذكر حين أطالعها يوماً حالة وضعتني فيها رضا ...
لم اشأ أن انخرط أكثر .. لأنني أعلم أن لتلك القصة فصول أخري قد لا يحتملها كيان خارجي ..
فتركتهم يعيشونها وحدهم ..
وأنا أشك .. أني وحدي أعلم ..
النهاية ....
تم حذف أجزاء من النص لأنها يتنافي مع أخلاقيات المهنة "خصوصية المريض"
25/7/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق