كعصا سحرية .. بل موسوية .. فلم يكن وجودها خداعا .. بل كان معجزة بحق ..
تنزلت بوجودها الصبياني علي القلب كوحي ... كنفحة حياة .. كمسحة نورانية ... كشيء ابيض رائق لا ينتمي لدنيانا ..
حبيبة .. ذات الأحد عشر ربيعاً ..
أم من الأدق أن نقول ذات الأحد عشر خريفا ً .. فعمر حبيبة لم يكن مثلنا يحمل ربيعاً ..
يمكنك القول أن سنوات حياة حبيبة الأحد عشر أخذت من فصول السنة كامل اشواكها .. من جدب خريفها .. وجفاف صيفها .. وقسوة شتاءها ..
ولكنها لم تأخذ من الربيع سوي التنوع .. ولكنه التنوع ألماً ..
ذات الأحد عشر ربيعا أصبحت بعقل خمسينية .. ومصطلحات اربعينية .. وحكايا سبعينية مخرفة .. ولكنها كانت في براءة ذات الثلاث سنوات ...
تشع عينيها البنيتين بريقا صافيا يذيب عنفوان الشر فينا ..
حبيبة كانت البنت الأكثر ألما ..
كانت آلامها لا تتناسب نهائيا مع سني عمرها ...
أمها .. جزائرية مسيحية اسمها (......) .. هربت من بلدها منذ ما يقرب من سبعة عشر عاما .. إلي تونس .. ليستقر بها الحال هنا في مصر ..
وأمها المنتقبة والتي يبدو عليها امارات الجمال النسبي يشع من خارج نقابها .. ومن ذاك التهافت للرجال عليها كما تحكي دوما .. وهي امرأة في اواخر الثلاثينات .. فما بالك وهي في ريعان جمالها .. عشرينية .. فارة من بلدها ..
والتقفها ذكران المتأسلمين .. فليسوا رجالا وليسوا مسلمين ..
تسلمين .. ونكفلك ..
تسلمين .. ويتزوجك احدنا .. ربما بعقد عرفي .. وربما بعقد رسمي ولكنه سري .. ولست ادري الفارق بينهما سوي في التسمية المذهبية .....!!!
وذاك واقع لا يمكننا ان نتبرأ منه .. فتلك حكاية .. واقعية ..
وبعدما رفضت الشابة -التي اسلمت اقتناعا- لا طمعا في زيجة نفعية من حقير ملتح .. بعدما رفضت تلك العروض المتشحة بالجلابيب البيضاء .. واستمر تخبطها اياما عديدة ..
وجدت زيجة ظنتها مناسبة .. أو ربما يمكننا القول أنه قد انهكها الضياع وتحرش الأعين وتلكم الغربة التي تطل في لكنتها تغري الأنذال بالتودد الخبيث..
(..ص..) كان الزوج المناسب .. هكذا قال لها (الإخوة في المسجد) ..
وصاد هذا كان رجلا كويتيا او سعوديا لا ادري تحديدا .. المهم انه كان معاقاً من ذوي الثراء يقضي في بلدنا المشتهر بأشياء ما عند الخليجيين أجازة مؤقتة .. قرر خلالها أن يتزوج زواجا مروريا .. زواج ترانزيت ..
كانت نتيجته حبيبة ..
لذا فحبيبة اسمها مصري خليجي واضح ومستغرب علي السامع .. كغرابة قصتها ..
وبعد ان سافر اتضح الامر برمته .. الشقة مستأجرة .. واخوة المسجد اياهم قد قبضوا ثمن (أم حبيبة ) من الخليجي الغني .. أو ربما كانت لحاهم اثقلت رؤوسهم عن فهم حقيقته ...
وعادت إلي الشارع .. مثقلة بحمل اكبر .. ذاك الجنين النابت في رحمها ..
ولم تجد سوي ذات الإخوة المسجديين .. اخوتها في الإسلام كما كانت تظن .. لتلقي نفسها عند احد اولئك الشيوخ ثانية باكية شاكية ..
فما كان من الشيخ العلامة سوي ان عرض عليها صفقة زواج اخري منه هو ولكنها رفضتها لسرية العقد ..
وتنقلت بين المشايخ تعرض شكايتها وكانت قد اتقنت العامية المصرية ونكهة خليجية .. حتي كفل لها أولئك الإخوة زيجة جديدة بعد فترة صغيرة من ولادة حبيبة ..
وكان الرجل المصري الغليظ .. بلطجي .. ارادوا ان يكفوه عن شره بتزويجه .. ارادوا أن يعفوه عن فجره بتزويجه .. من تلك الغريبة .. فلا احد سيسأل عنها ولا أحد سيعترض ...
ولم يتوقف عن شره سوي بضعة اشهر .. وعاد إلي جبروته وبلطجته ..
واستمرت الزيجة بضعة سنوات نتج عنها الكثير من الألم لحبيبة وامها نتيجة العذاب البدني الذي صبه السكير الغاشم عليهما ..
وطفلين آخرين ..علي ما اعتقد ..
فروايات حبيبة وامها عن عدد الأزواج والاطفال متداخلة في ذهني حتي اعجز عن احصائهم ..
كانت ام حبيبة تحتمل القسوة .. تظنها اقل وطأة من الخروج للشارع ثانية حاملة مزيدا من الأطفال والهموم ربما ..
ولكن انتهي صبرها .. وعلم الجميع بمدي العناء الذي تتكبده الأم وطفلتها .. ففرقوا بينها وبينه ..
لتعود إلي فاترينة الشيوخ يعرضونها علي اي شبه رجل يودون اعفافه .. في سوق نخاسة متأسلم _والإسلام براء منهم_ برخص ففقهية عجائبية ..
لتتزوج أم حبيبة ذات البضع وثلاثين سنة شابا آخر .. كان يجلس معي في ذات الفصل في المدرسة الابتدائية .. شابا لم يتجااوز الخامسة والعشرين ..
كل ما اعرفه عنه أنني اتواري منه كلما لقيني هربا من تسوله المفرط الدائم لبضعة جنيهات لزوم الدخان ..
لارتطم بالصدمة حين تخبرني حبيبة أن ذاك العاطل عشقا للبطالة هو أباها الجديد ..
أم حبيبة تعمل ليل نهار لكي تنفق علي بيتها وطفلتها .. وزوجها الجديد .. مقابل أن تكون زوجة ربما ..
أن تخرس السن الناس عنها .. وتغض اعين الشيوخ عن التحرش بها ..
أم حبيبة يطل دوما من عينيها البارزتين من تحت النقاب .. غضب مختلط بشكاية ..
أما حبيبة ذات الأحد عشر ربيعا فقد عانت بما يكفي ليتأخر نموها العقلي .. والنفسي ..
اصبحت دائمة الخوف .. كثيرة الصراخ بلا سبب ..
اصبحت لا تدري من الاحرف سوي رسم اسمها .. رسما لا كتابة ..
لا تدري من الارقام سوي اصبعين تشير بهما إلي عمرها ...
ولا تدري من الدنيا سوي المعاناة ..
والتقينا ..
رأيت قصة طويلة في عينيها .. علمت أن تلك المرتعشة الباسمة هناك تحمل وجعا ما ..
قصة فتاة وفتاة .. جزائرية اسلمت .. وسلمها اخوتها إلي الظلام ..
وصغيرة .. جنت ما اقترفه آخرون ..
وانخرطت بشدة معهما .. حتي صار الأمر اصعب من احتمالنا جميعا ..
وصار العجز اقوي من محاولات التسكين والمداواة ..
تعلمت حبيبة بضعة أحرف ..
وتعلمت أن تكتب اسمي ..
تكتبه لا ترسمه ..
لا زلت اذكر شرودها اثناء كشفي علي المرضي في العيادة ..
كانت ترسم ...
وردة .. او شبه وردة ..
فتاة .. او شبه فتاة ..
قطة .. او شبه قطة ..
لم ازل احمل بعض شخبطاتها علي دفتر الروشتات ..
ولم ازل احمل صورتها ...
وكالعادة تورطت في قصة أقسي من احتمالي .. اقسي من عجزي ..
قصة لأناس يحيون المعاناة كل يوم .. حتي ألفوها ..
حتي اصبحت حكايتها للغرباء امثالي تجعلهم يشعرون بها اكثر ...
اصبحت مشاركة الغرباء لآلامهم .. توجعهم اكثر ..
استطاعت حبيبة أن تمنحني بعض الحياة ..
كثير من السعادة ..
مسحات من السلام الداخلي ببراءتها ..
استطاعت طلاء جدران روحي بدهانات الصفاء فيها ..
ولكني....
هربت .. انسحبت .. استقلت .. كالعادة ..
ولكنها كانت اكثر غضبا من الكون ومني ..
حتي انها لم تشأ أن تمد يدها بالسلام حينما عرفت أنه اخر يوم لي في تلك العيادة ..
ورأيت كثير من اللوم في عينيها ..
لوم لم يزل يؤرقني ..
ربما يخففه قليلا . ان اكتب عنها .. .... 4 ديسمبر 2011 يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق