من حكم ابن عطاء : "ادفن وجودك في ارض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه"
خلق الله الكون قائم بأسره علي "الفلكية" .. دوران الاشياء في افلاكها ..
الكون ما هو إلا افلاك متداخلة .. في حالة دوران مستمر .. ليست مجرد حركة أنما هو دوران ..
فتلك دورة الأرض حول الشمس تصنع فصولا .. ودورتها حول نفسها تصنع يوما بنهار وليل .. ودورة القمر تصنع شهرا ..
وكذا دورات الحياة .. فكل كائن خلقه الله يمر بدورة حياة ..
ويتجلي ذاك الدوران الفلكي .. ويؤكده الله في العقول ويقره في الوجدان في مظهر الحج .. الطواف ..
وللنفوس ايضا دورة حياة .. لابد لها ان تخضع لأطوارها لكي تصل إلي النضج .
تماما كتلك اليرقات .. دودة صغيرة تبدأ في لف نفسها بشرنقة قوية .. تمنعها عن العالم .. فترة من الزمن .. حتي يتم نضجها ..
تتحول داخل شرنقتها من طور اليرقة الدودية (المستقبح) .. إلي طور الفراشة الملونة ..
من الطور الأرضي .. الدنيوي .. الزاحف ... إلي الطور السماوي .. الطائر الحر ..
من يرقة إلي فراشة ..
وهكذا يرقات النفوس الغضة .. حديثة العهد بالدخول علي الله .. لن تحتمل الخروج إلي العالم برسالتها فور تلقيها ...
بل احيانا لا تحتمل الرسالة نفسها .. لا تحتمل حالة الاتصال الدائم بالله ..
مالم تتشرنق فترة من الزمن .. تصنع جدرانا عازلة مع العالم ..
تدفن انفسها في ارض المجهولية .. تغوص في الهامش .. تحيد عن الاضواء .. تخرج من الكادر .. وتختفي عن العيون ..
تختبئ من الزحام ..
كبذرة لابد لها من أن تدفن في الأرض .. وكلما زاد عمق الدفن .. كلما قويت جذورها .. وصعب اقتلاعها كشجرة يوماً ..
هكذا البشر يا فتي .. خصوصا تلك الأرواح الهشة .. التي خلقت لتتصل بالمطلق .. وتعزف عن المحدودية ..
تلك الأرواح (اليرقات) الهشة ربما تنكسر اعوادها إذا زرعت سطحية ..
ربما يتصدع بنيانها بفعل رياح الفتن يوما بعد يوم ..
ربما يدوسها غافل وهي تزحف متيرقة ..
وربما يقتات عليها كبذرة عصفور شارد لا يعبأ بأحلامها المؤجلة ..
لذا فمن اشرقت بدايته اشرقت نهايته .. والبدايات ليست نقطة من الزمان .. إنما امتداد زمني واسع ..
حالة صناعة الأسس ..
حالة التجذر ... النمو التحتي .. الامتداد الداخلي ..
فلا تتعجل الخروج للعالم ..
فلم تسطع شمس نفس قط إلا بعدما تشربت من الاعتزال .. بعدما قويت داخل شرنقتها .. بعدما اتقنت سبر اغوار ذاتها بالخلوة ..
فالنبي يحبب إليه الخلاء زمنا طويلا قبل الوحي ..
وموسي يضطره الله إلي مدين ثماني حجج .. بعيدا عن الانظار .. شرنقة ما قبل الوحي ..
"لتصنع علي عيني"
هكذا هي الصياغة الربانية للنفوس الكبار .. يخلع عليها شرنقة قدرية .. يقصيها طويلا عن منتصف الصفحة .. يحيلها إلي الهامش حيث الهدوء حتي لا تتلوث بالزحام .. تتعكر بالضوضاء ..
حتي يأتي زمن حصادها .. زمن قذفها إلي بؤرة الأحداث .. زمن كتبابتها كسطر نوراني في منتصف الصفحة ..
لا تتعجل يافتي خدش شرنقتك .. لا تتعجل تسطح بذرتك ..
امدد جذورك .. وتشرب من حكمة الهامش ..
واعلم ان عمق فترة شرنقتك .. وبط تكون جذورك .. سيكون له اطيب الاثر في متانة جذوعك .. في ثبات اصولك ..
لا تعبأ بالأضواء .. وارض بمساحتك القسرية من الحياة .. فأنت علي عين الله ..
ومهما صغرت قيمتك الكونية .. فلا يعزب عن ربك مثقال ذرة ..
محاط بعلمه .. فلا شيء من مواهبك سيبور .. ولا نبت من دواخلك سيذبل .. ولا واحدة من امكاناتك ستتعطل ..
هو وهبك واعطاك .. هو صنعك كنسخة فريدة ..
"ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "
فارض بعوالم الظلال .. "الم تر إلي ربك كيف مد الظل ""
وافرح بهامشية شرنقتك ..
وتعمق في ارض الاتصال بالله ..
واعلم ان هناك ارواحا اردا الله ان تكون له وحده .. فأخذ يخلصها من الكون .. من التعلق بالاشياء ..
ارخي عليها سدول الظلال لئلا تعرف .. فيفسدها الضوء .. كصورة لم تتحمض بعد ..
ان صورتك النهائية ليست جاهزة .. اغلق الانوار .. وانغمس في ظلال التحميض الرباني لنضج النفوس ..
فلم تزل نيجاتيف يا فتي ..
وقد يحرقك الضوء ..
فادفن وجودك .. بكامل ارادتك ..
فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق