- واقفه علي سور البلكونة في الدور الثامن .. وبتغني .. الحقها بالله عليك .. انت الوحيد اللي ممكن تتعامل معاها
هكذا اخبرني حبيبها صارخا في الهاتف ..
لم اكن اعرفها من قبل ..
بعد ثلث ساعة وجدتني بجوار باب البلكونة .. والأهل محتشدين بالأعلي .. والمارة محتشدين بالأسفل ...
كيف بدأ الأمر ..
رن جرس هاتفي بإلحاح غريب من صديق قديم قدم البراءة داخلي ...
ربما نسيته .. كما نسيت تلك البراءة ..
وربما هما نسياني ..
- بص يادكتور دي مسألة حياة او موت .. أنا حب حياتي عاوزه تنتحر ... محدش عارف يقنعها .. محتاجك تكلمها
في البداية ظننت أن الأمر مجرد هاجس .. وصل إليه .. وبالغ فيه بحبه لها ...
حتي تأكدت أنه يعني أن ذاك حادث الآن ..
هي الآن تقف علي سور البلكونة في الدور الثامن بشقتها .. وتهدد الجميع ان فتح احدهما باب الشرفة ... ستعجل بإلقاء ذاتها ..
فقط ينبغي عليهم جميعا أن يصغوا لها ..
بدأت تخاطبهم .. تروي لهم قصصها المتوارية .. تغني احيانا .. تضحك بهستيرية .. وتبكي حينا ..
تطلب منهم الاتصال بشخص ما .. ثم آخر .. حتي انتهي الأمر إلي حبيبها ..
الذي اتصل بي بدوره حين عجز تماما عن مجرد اقناعها بأن يدخل عليها الشرفة ليتحدثا ..
- اشمعني انا يا محمد .. أنا مش طبيب نفسي ...
كنت احاول الهرب من تلك المجهولة ..
كعادة الجميع .. لم يكن مظهر اعضاءها المتناثرة علي الطريق ليترك لي انطباعا جيدا غدا ..؟؟!!!
- عشان انت .. اكتر حد اعرفه خبرة بالألم .. صديق للمعاناة .. انت اكتر حد تقرب من الشياطين .. والتصق بالعبث والفراغ واللاجدوي
- يا سلام .. ؟؟!!
- ببساطة يا دكتور .. انت اكتر حد اعرفه انتحر قبل كده كتير ...!!!!
وفي دقائق وجدته ينتزعني من المستشفي .. ويذهب بي إلي بيتها ..
اليعون كانت معلقة بي .. المارة حول بيتها .. أهلها ..
كانت الطريق تفسح بانسيابية غريبة بين اكتظاظ الاجساد حول مشاهدة انهيار انسان ..
شعرت كأني مسيح مخلص .. ساحر منتظر ..
ذاك الغريب الذي يسحبه حبيبها .. ويمر به سريعا نحوها ..
الكل كان يتمتم بالدعاء .. أو الاستغراب .. أو التساؤل عن ماهيتي ..
- مين ده ؟؟!! .. معالج روحاني .. ولا منوم مغناطيسي ..
- هو الواحد في حالة زي دي ممكن يتصل بمين ينجده .. لا مطافي ممكن تطفي وجعها .. ولا اسعاف ممكن تداوي جرح الدواخل ..
هكذا اظنهم كانوا يتمتمون ..
اخترقت الاجساد .. وعلي مقربة من الشرفة .. افقت ..
- طب انا معرفش اي حاجة عنها .. قوللي اي حاجة عنها .. ايه اللي مخليها عاوزه تموت .. فيه مشكلة في ارتباطكم ..
هكذا سألت حبيبها ..
ورد الجميع
- لا يابني .. المشكلة في دماغها .. هي بتفكر كتير .. مكتئبة .. معدومة الأمل .. مش زعلانة من حد معين .. دي زعلانة م الدنيا .. وبعدين عندها وساوس بخصوص ربنا والوجود والخلق وكده ...
يا الله .. لهذا اذن اختاروني أنا ..
اصبحت في الفترة الأخيرة ملاذ ذوي الوساوس .. والشكوك ..
طبيب الملاحدة .. والمدمنين ..
- طيب استأذنكم مساحة بس كده عشان اعرف اكلمها .. هي اسمها ايه ؟؟
- مروة ..
رد احد المشاهدين في مداخلة غير معلومة المصدر ..
اقتربت من الشرفة .. كانت الافكار مزدحمة في عقلي ..
كانت جميلة كحلم في نهايته .. رائقة البشرة بشكل عجيب .. وكأني رأيت في مرآة وجهها حياتي القديمة ..
عيناها تلمعان بخيط رفيع من الدمع .. ممزوج بنظرة شجن .. لوم للكون .. عتاب للاشيء .. بل لكل شيء ..
علي وجهها كانت ابتسامة مريرة .. ابتسامة التهكم المختلط بالتألم ..
وكأنها تبتسم في محاولة لتوازن أوجاعها .. حتي لا تسقط الآن ..
شعرت بمجرد النظر في وجهها .. انها لا تهدد .. انها تعني ذاك فعلا ..
هي فقط تنتظر ان تلقي وصاياها الأخيرة .. عتابها المدوي ..
هي تريد ان تترك للكون صفعة عتاب ..
هي كانت اجمل من أن تموت .. لم استطع تصورها ممزقة علي الاسفلت الحضاري القاسي ..
كانت متزينة كعروس .. غزيرة الشعر .. يفرقه هواء الشرفة الثامنية .. في مشهد سينمائي .. مؤلم ..
- تعرفي يا مروة .. ياما كان نفسي اقابل غريب .. اي حد غريب احكيله عن حاجات مش قادر احكيها .. وبعدين اقتله ... بس كويس انك هنا .. علي حافة الموت .. وكمان معرفكيش .. فممكن قبل ما تنطي .. تسمعي مني حكاياتي اللي مش قادر احكيها لأحبائي .. وبعدين تاخديها معاكي للقبر .. عشان انا تعبت اوي من شيلها ..
هكذا بدأت احدثها .,. لم اناديها .. لم اسلم . لم اقرأ ايه قرآنية ..
- بعد اذنكم يا جماعة ... ممكن تسيبوني شوية .. مكانكم هنا مش صح .. انتم هنا في المحطة .. مروة حتبقي تحت قبل ما توصلوا الدور السابع .. حد بس ينزل يشيل العربيات من تحت البلكونة .. مش حيبقي موت وخراب ديار ..
ارتفعت همهمات التعجب .. وارتفع سؤال صامت .. (انت جايبلنا مجنون .. ولا واحد يستعجلها .. دي حتنتحر مش حتولد ؟؟) .. رفعت صوتي بهذا السؤال الذي لم يتمكنوا من قوله .. وقرنته بغمزة خافتة وايماءه إلي صديقي .. الذي حمل الجميع للخارج ..
- جربتي تشربي سجاير ؟؟!! .. اوعي تكوني حتموتي قبل ما تجربيها ؟؟!!
كانت صامته منذ بدأت عباراتي الصادمة .. توقفت عن حكاياها .. عن معاتبتها لكل شيء .. عن ندبها .. عن غنائها ..
وفجأة لمعت عينها دون خيط الدموع ..
اخرجت علبة سجائر مستترة في جيب سترتي .. سجائر الطوارئ كما اسميها .. سجائر الاحباط ..
فأنا اكتب علي علبة السجائر تاريخ شرائها .. ثم اشرب سيجارة واحدة كلما كنت محبطاً ..
واراها في اخر كل شهر ..
نعم هي مقياس احباطاتي .. وذاك الشهر كنت محبطا بمقدار سيجارتين ..
- دي بسميها سجاير الاحباط .. انا مش مدخن .. بس بشرب سيجارة واحدة كل ما الدنيا تضايقني .. الشهر ده الدنيا مديونالي بسيجارتين .. وادي التالتة .. محبط دلوقتي .. مش منك .. لأ .. من اي حاجة في الكون .. خلت ملاك زيك ... يمشي بدري
- والله مش بهزر يا مروة .. اوعي تكوني حتموتي من غير ما تجربي ..
بيقولوا انك كده كده داخله النار .. عشان بيقولوا انك حتموتي كافرة .. فبجملة يعني .. اوعي تكوني حتخشي النار .. وعمرك ما شربت سيجارة .. ولا دقت طعم الفودكا .. ولا بوستي شاب حليوة من بقه ؟؟
اصل يعني دي تبقي بواخه طحن .. انك تخشي النار .. من غير رصيد ..
عارفه ساعتها ابوجهل حيشغلك عنده في النار .. صبي ..
كنت اتحدث ولا انظر إليها .. اخرجت سيجاره .. واشعلتها وبدأت اسحب دخانها في بطء ..
- علي فكره .. انا اول مرة اعرف ان الانتحار بيموت الفضول .. يعني مسألتنيش انت مين بسلامتك ؟؟ .. واشمعني انت اللي بتكلمني ؟؟ .. ولا تلاقي طاقة فضولك كلها متوجهة نحو ما ينتظرك علي الجانب الاخر من الحياة .. ما بعد الموت ..
تفتكري في ايه الناحية التانية ؟؟!!
....... يتبع في الادراج التالي
هناك تعليقان (2):
انت كما انت مهما تعددت شخصياتك واختلفت مستويات التدين والايمان لديك وارتفعت بك الدنيا وانخفضت انت عماد رشاد تدخل القلوب من قبل ان تطرق الابواب تلك الخلطة العجيبة التركيب متدين المتفلسفين وفيلسوف المتدينين انت هو مهما حاولت فرض شكل وحيد وثابت على نفسك . وجه أدبى كنت اشتاق اليه حمد الله ع السلامة
ليه اللي بيموت نفسه بيقولوا عنه كافر
في نص قرأني أو حديث يدعم ده
يمكن كفر بإرادة ربنا وقرر الانسان ينسحب من الدنيا علي غير ارادته
بس هو في حاجة في الكون بتحصل علي غير ارادة الله
إرسال تعليق